فصل: تفسير الآية رقم (122):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن تفعل ذلك إنما تخدع نفسها ومن يُعجب بها. ولنا أن نعرف أن الحق سبحانه وتعالى يريد أن يعدل من مزاج الكون فيعطي للإنسان سكنًا ومتعة ولكن بتوازن عاطفي وعقلي، فلو أراد الله لخدّ المرأة التوهج لتثير غرائز الرجل لخلق الله الخدين على هذا الأسلوب، لكنه أراد للخدود أن تكون بألوانها الطبيعية حتى تهيج الغرائز على قدر القوة التي في الرجل، وعندما تكبر المرأة نجد جمالها قد ذبل قليلًا على قدر نسبة ذبول قدرة الرجل، فسبحانه يعطي على قدر الطاقة حتى لا تتحول المسألة إلى إهاجة للغرائز فقط.
إن هناك فرقا بين تصريف الغرائز وإهاجة الغرائز وإلهابها، وما يحدث من وسائل التجميل هو تغيير لخلق الله. وكذلك المرأة التي تحدث وشمًا، أو الرجل الذي يفعل ذلك إنما يغيران من خلق الله، ولو كان الحق يرى أن مثل هذه الأعمال تزيد من الجمال لفعلها {فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}.
ويقول الحق من بعد ذلك: {وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} والولي للشيطان هو الذي يليه ويقرب منه. ومن فعل ذلك فقد ترك الأفضل وذهب إلى الأضعف الذي يورده مهاوي وموارد الهلاك، ويخسر الخسران الواضح والمحيط من كل الجهات، ولا انفلات من مثل هذا الخسران.
ويقول الحق من بعد ذلك:
{يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}
وهذا يعني أن الشيطان يقدم الوعود الكاذبة لمواليه ويخبرهم بشيء يسرهم، فالوعد هو أن يخبر أحد آخر بشيء يسرّه أن يوجد.
والمثال على ذلك نراه في الحياة العادية فالإنسان منا يحب ماله الذي قد جاء بالتعب، والصدقة في ظاهر الأمر تنقص المال، فيقول الحق:
{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} [البقرة: 268]
لماذا؟.
لأن الشيطان يوسوس في صدر صاحب المال قائلًا: إنك عندما تتصدق ببعض المال فمالك ينقص. وويل لمن يرضخ لوساوس الشيطان؛ لأنه يورده موارد التهلكة، والشيطان أيضًا يقدم الأماني الكاذبة في الوساوس: {ويمنيهم}. ومثال ذلك ما جاء على لسان المتفاخر على أخيه بلون من الاستهزاء والعياذ بالله: {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]
المتفاخر يقول: مادام الله قد أعطاني في الدنيا، وما دامت مهمة الله هي العطاء الدائم فلابد أن يعطيني ربي في الآخرة أضعاف ما في الدنيا؛ ذلك أن سعيد الدنيا هو سعيد في الآخرة، فماذا كان جزاؤه؟.
لقد رأى انهيار زراعته وعرف سوء مصير الغرور؛ لأنه استجاب لوعود الشيطان، ووعود الشيطان ليست إلا غرورًا {وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}.
فما هو الغرور؟. هناك «غُرور»- بضم الغين-، و«غَرور»- بفتح الغين-. والغُرور- بضم الغين- هو الشيء يُصوَّر لك على أنّه حقيقة وهو في الواقع وَهْم. والغَرور- بفتح الغين- هو من يفعل هذه العملية، ولذلك فالغَرور- بفتح الغين- هو الشيطان؛ لأنه يزين للإنسان الأمر الوهمي، ويؤثر مثلما يؤثر السراب؛ فالإنسان حين يرى انكسار الأشعة يخيل إليه أنه يرى ماء، ويقول الحق عن ذلك: {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [النور: 39]
وكذلك الغُرور، حيث يزين الشيطان شيئًا للإنسان ويوهمه أنه سيستمع به. فإذا ما ذهب الإنسان إليه فلن يجد له حقيقة، بل العكس، ولذلك يفصل لنا الحق أعمال الكفار فيقول عنها: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]
ويفاجأ الكافر بوجود الله الذي كان كافرًا به، ويصير أمام نكبتين: نكبة أنه كان ذاهبًا إلى ماء فلا يجده فيخيب أمله، والنكبة الثانية أن يجد الله الذي يحاسبه على الإنكار والكفر.
ويقول الحق: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]
وقد يأتي واحد ويدعي لنفسه الإنسانية ويظن أنه يتكلم بالمنطق فيقول:
- هل هؤلاء الناس الذين قدموا للبشرية كل هذه المخترعات التي أفادت الناس كالمواصلات وغيرها، أيصيرون إلى عذاب؟. ونقول: هؤلاء سيأخذون جزاء الكفر؛ لأن الواحد منهم قد عمل أعماله وليس في باله الله.
بل قام بتلك الأعمال وفي باله عبقرية الابتكار والإنسانية وهو يأخذ من الإنسانية التكريم، وعليه أن يطلب أجره ممن عمل له وليس ممن لم يعمل به، وينطبق عليه قول الرسول:
عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرّفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت. قال: كذبت ولكنّك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن فأتى به فَعّرفه نعمه فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعَلّمته، وقرأت فيك القرآن. قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله فأتى به فعّرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلاّ أنفقت فيها لك. قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقى في النار».
ولم يغمطهم الله جزاء أعمالهم في الدنيا. فقد أخذوا من الدنيا كل التكريم.
ووزع سبحانه فضل هذه المواهب على الناس الذين في بالهم الله؛ لذلك ترى المسلم غير المتعلم يركب الطائرة ليحج بيت الله ويُسجل أحاديث الإيمان على شرائط ليسمعها من لم يحضر ويشاهد هذه الشعيرة، إذن فهؤلاء الكافرون مسخرون للمؤمنين لأنهم أتاحوا لهم الانتفاع بعلمهم واكتشافاتهم، والمؤمنون أيضًا مطالبون بأن يأخذوا بأسباب الله لينالوا كرم الله في عطاء العلم، بل إن ذلك واجب عليهم يأثمون إذا لم يقوموا به حتى لا يكونوا عالة على سواهم، فلا يستذلون.
{وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} وماذا يكون نصيب هؤلاء في الآخرة؟ يقول سبحانه: {أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}
وكلمة «مأوى» معناها المكان الذي يضطر الإنسان إلى أن يأوى إليه، فهل هذا الاضطرار يكون اندفاعًا أو جذبًا؟ سبحانه يقول عن النار إنها ستنطق قائلة: {هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30]
كأن النار ستجذب أصحابها. وهم لن يجدوا عنها محيصًا، أي لا مهرب ولا مفر ولا معدى، وكان باستطاعة الواحد منهم أن يفر من مخلوق مثله في دنيا الأغيار، ولكن حين يكون الأمر لله وحده فلا مفر.
{لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16]
والمقابل لذلك يورده الحق: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ...} اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
وقرأ أبو عمرو فِيما نَقَل عنه ابْن عَطِيَّة: {ولامُرَنَّهم} بغيرِ ألفٍ، وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه، ويجُوز ألاَّ يُقَدَّر شَيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القَصْدَ: الإخْبَارُ بوقوعِ هذه الأفْعَال من غيرِ نَظَرٍ إلى مُتعلَّقاتِها، نحو: {كُلُواْ واشربوا} [الطور: 19].
قوله: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} أي: يَقْطَعُونها، ويَشقُّونها، وهي البَحِيرة، والبتكُ: القَطْعُ والشّقُّ، والبِتْكَة: القطعة من الشيء، جَمْعُها: بِتَك، قال: [البسيط]
حَتَّى إذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الغُلاَمِ لَهَا ** طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ

ومعنى ذلك: أنَّ الجاهليَّة كانوا يَشُقُّون أذُن النَّاقَة إذا ولدت خَمْسَة أبْطُن، آخرُها ذَكَر، وحرَّمُوا على أنْفُسِهِم الانتفاع بها، وقال آخرون: كانوا يَقْطَعُون آذَان الأنْعَام نُسُكًا في عِبَادَة الأوْثَان، ويَظُنُّون أنَّ ذلك عِبَادة، مع أنَّه في نفسه كُفْرٌ وفِسْقٌ.
فصل:
قال أبُو العبَّاس المُقْرِي: ورد لَفْظُ الخُسْرَان قي القرآن على أربَعَة أوْجُه:
الأوَّل: بمعنى الضَّلالة؛ كهذه الآيَة.
الثَّاني: بمعنى العَجْز؛ قال تعالى: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] أي: عَاجِزُون ومثله: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90].
الثَّالث: بمعنى الغَبْن؛ قال تعالى: {الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون: 103] أي: غبنوا أنْفُسَهم.
الرابع: بمعنى: المُخسِرُون؛ قال تعالى: {خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران المبين} [الحج: 11].
قوله: {يُعدُهُمْ وَيُمَنِّيهمْ}، قُرِئَ: {يَعدْهُمْ} بسُكون الدَّال تَخْفِيفًا؛ لتوالي الحَرَكات، ومَفْعُولُ الوَعْد مَحْذُوفٌ، أي: يعدُهُم البَاطِل أو السلامة والعافية.
قوله: {إِلاَّ غُرُورًا} يُحْتمل أن يكونَ مَفْعولًا ثانيًا، وأن يكُون مفعولًا من أجْله، وأن يكون نعت مَصْدرٍ محذوفٍ، أي: وعْدًا ذا غُرور، وأنْ يكونَ مَصْدرًا على غير الصَّدْرِ؛ لأنَّ {يَعِدُهم} في قوة يَغُرُّهم بوعْدِهِ.
فـ {أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} {أولئك}: مبتدأ، و{مأواهم}: مبتدأ ثانٍ، و{جهنم}: خبر الثَّانِي، والجُمْلَة خبر الأوَّل وإنما قال: {مأواهُم جَهَنَّم}؛ لأن الغُرُور عِبَارة عن الحَالَةِ التي يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهَا، ويَحْصُل النَّدَم عند انْكِشَاف الحَالِ فيها، والاستِغَراق في طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا، وفي مَعَاصِي الله تعالى، وإن كان في الحَالِ لَذِيذٌ، إلا أن عَاقِبَتَهُ جَهَنَّم، وسُخْطُ الله تعالى، وهذا معنى الغُرُور.
قوله: {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا}، فقوله: {عَنْهَا}: يجُوز أن يَتعلَّق بِمَحْذُوف:
إمَّا على الحَالِ من {مَحِيصًا} لأنَّه في الأصْلِ صِفَةٌ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها، وإمَّا على التَّبْيين أي: أعني عنها، ولا يجوزُ تعلُّقُه بمحْذُوفٍ؛ لأنه لا يتعدَّى بـ {عَنْ} ولا بـ {مَحِيصًا}، وإنْ كان المَعْنَى عليه لأنَّ المَصْدَر لا يتقدَّمُ معمولُه عليه، ومَنْ يَجوِّزُ ذلك، يُجَوِّزُ تعلُّق {عن} به، والمَحِيصُ: اسمُ مَصْدر من حَاصَ يَحِيص: إذا خَلَص ونَجا، وقيل: هو الزَّوَغَان بنُفُور، ومنه قولُه: [الطويل]
وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنا مِنَ المَوْتِ حَيْصَةً ** كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمَدَى مُتَطَاوِلُ

ويروي: «جِضْنا» بالجيم والضَّاد المعجمة، ومنه: «وَقَعُوا في حَيْصَ بَيْصَ»، وحَاصَ بَاص، أي: وقعوا في أمْرٍ يَعْسرُ التَّخلُّص منه، ويقال: مَحِيص ومَحَاص، قال: [الكامل]
أتَحِيصُ مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِدًا ** مَا لِلرِّجَالِ عِنِ المَنُونِ مَحَاصُ

ويقال: حاصَ يَحُوص حَوْصًا وحِيَاصًا أي: زَايَل المكانَ الذي كان فيه، والحَوْصُ: ضِيقُ مُؤخر العين، ومنه: الأحْوَصُ. اهـ. بتصرف.

.تفسير الآية رقم (122):

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر ما للكافرين ترهيبًا أتبعه ما لغيرهم ترغيبًا فقال: {والذين آمنوا} أي بوعد لا خلف فيه {جنات تجري} وقرب وبعض بقوله: {من تحتها الأنهار} أي لرّي أرضها، فحيث ما أجرى منها نهر جرى.
ولما كان الانزعاج عن مطلق الوطن- ولو لحاجة تعرض- شديدًا، فكيف بهذا! قال: {خالدين فيها} ولما كان الخلود يطلق على مجرد المكث الطويل، دل على أنه لا بإلى آخر بقوله: {أبدًا} ثم أكد ذلك بأن الواقع يطابقه، وهويطابق الواقع فقال: {وعد الله حقًا} أي يطابقه الواقع، لأنه الملك الأعظم وقد برز وعده بذلك، ومن أحق من الله وعدًا، وأخبر به خبرًا صاداقً يطابق الواقع {ومن أصدق من الله} أي المختص بصفات الكمال {قيلًا} وأكثر من التأكيد هنا لأنه في مقابلة وعد الشيطان، ووعد الشيطان موافق للهوى الذي طبعت عليه النفوس فلا تنصرف عنه إلا بعسر شديد. اهـ.